منذ عقود طويلة، تعامل الخطاب الديني في العالم العربي مع الجسد وكأنه مساحة للحرام فقط، سواء كان جسد المرأة او الرجل.. النصوص الدينية في تفسيرها التقليدي ركزت على الخطيئة و العفة والوصايا الأخلاقية التي تحدد كيف يجب أن يدار الجسد وما الذي يباح أو يحرم منه.. هذه الرؤية جعلت الجسد وبالذات جسد المرأة حقلا للسيطرة الاجتماعية والدينية..
لكن مع جيل جديد نشأ في عصر الإنترنت صار السؤال أكثر جرأة: هل الجسد ملك لي أم ملك للمجتمع؟ هل يحق لمؤسسة دينية أو دولة أن تملي علي كيف أعيش جسدي وهويتي الجنسية؟!
الدكتورة نوال السعداوي، الطبيبة والكاتبة المصرية الراحلة حذرت منذ السبعينيات من خطورة ربط الجسد بالشرف.. كتبت بوضوح: حينما يختزل شرف المراة في غشاء بكارة يتحول الجسد إلى أداة قمع ووسيلة سيطرة ليس فقط على النساء.. بل على المجتمع كله..
كلمات السعداوي تظل حتى الان حجر أساس في النقاش حول الجسد والحرية.. بالنسبة لها.. المعركة على الجسد لم تكن معركة نسوية فقط بل معركة سياسية واجتماعية أيضا..
وفي كتابها الحجاب وغشاء البكارة صرحت الكاتبة منى الطحاوي قائلة: جسدي ليس ساحة معركة بين شرف القبيلة وخطاب المؤسسة الدينية.. الطحاوي تؤكد أن الجسد حق فردي كامل وأن محاولة المجتمع لتحديد سلوك النساء والرجال الجنسي يكرس أشكال العنف والازدواجية..
واضافت حين يقرر رجل دين أو مشرع أن يفرض وصايته على جسدي فهو في الحقيقة يلغي إنسانيتي..
بين التحريم والخوف من الحرية
الأزهر والكنيسة القبطية الأرثوذكسية يتفقان رغم خلافاتهما العقائدية على نقطة واحدة: الجسد يجب أن يحكم بالضوابط.. في مواقف متكررة يربط كلاهما بين الحرية الجنسية وبين الانحلال أو تفكك الأسرة..
الأزهر أصدر أكثر من بيان يؤكد أن المساكنة والزواج المدني خارجان عن الشرع..والكنيسة تعتبر أي علاقة خارج الزواج خطية كبرى تهدد قدسية الأسرة المسيحية..
وقالت المحامية عزة سليمان أن هذا الخطاب يتجاهل الواقع: الكبت الجنسي والرقابة على أجساد النساء لم ينتج مجتمعا عفيفا بل خلق أشكالا متعددة من العنف والازدواجية.. الحرية الجسدية ليست رفاهية.. بل حق إنساني..
جيل جديد يصرخ: أجسادنا ملكنا
داخل تقارير صحفية عربية وأجنبية ظهرت شهادات جريئة لشباب وشابات قرروا الخروج عن النص...
شابة مصرية قالت: لما قررت أعيش علاقة من غير جواز الناس شافوني منحرفة لكن أنا شفت نفسي لأول مرة إنسانة حرة..
و شاب لبناني روى : المجتمع يملك جسدك قبل ما تولد بيقررلك إزاي تعيش وتحب وأنا رفضت ده وقررت إن حياتي ليا مش لهم..
هذه الأصوات تظهر أن هناك شريحة من الجيل الجديد لم تعد تخاف من طرح الأسئلة الكبرى حول الحرية الجسدية والهوية الجنسية..
الباحثة في علم الاجتماع بجامعة كامبريدج مها عبد الرحمن ترى أن الهجوم المستمر على أي نقاش عن الحرية الجسدية ليس مجرد خوف أخلاقي لكنه خوف سياسي.. وعلقت: المجتمع الأبوي يخاف من تحرر الجسد لأنه يعني فقدان السيطرة.. تحرر المرأة من الوصاية يعني بداية انهيار نظام كامل من الامتيازات...
الإعلام الجديد يكسر التابوهات
على منصات مثل إنستجرام وتيك توك صارت النقاشات حول الجسد والهوية الجنسية أكثر علنية.. فتيات يتحدثن عن تجاربهن مع فرض الحجاب أو خلعه، شباب يعلنون ميولهم الجنسية علنا و صفحات كاملة تناقش موضوعات مثل الجنس الآمن أو الحرية الجسدية من منظور علمي..
الإعلام الديني التقليدي يرد بالتحريم.. بينما الإعلام الجديد يفتح أبواب الأسئلة بلا خوف..
الصحفية أمينة خيري قالت أن الجيل الجديد لا يستأذن.. وحين يقرر يعيش جسده بطريقته.. وعلقت: الفتيات والشباب النهارده عندهم مساحة أكبر للنقاش مش بيسكتوا زي الأجيال اللي قبلهم.. ده بيخلق صدام مفتوح مع خطاب ديني ما زال يعيش في الماضي..
بين خطاب الوصاية وواقع مختلف..
الأزهر والكنيسة ما زالا متمسكين بمفهوم الجسد الطاهر ، بينما الواقع الاجتماعي يثبت إن ملايين من الشباب يعيشون حياتهم خارج الإطار التي تريد المؤسسات فرضه..
السوشيال ميديا خلقت علانية جديدة و فضحت الازدواجية: رجال دين يلقون خطبا عن العفة بينما تكشف فضائح جنسية تخص بعضهم.. شباب يعيشون حياة مزدوجة بين الطاعة العلنية والحرية السرية..
شهادات من الواقع
فتاة جامعية تدعي سارة ( اسم مستعار) علقت : أول مرة اتكلمت مع أمي عن جسمي والدورة الشهرية. قالتلي عيب، طول الوقت حاسة إن جسمي ملك الناس مش ملكي..
شاب مصري (27 سنة) في حوار مع مجلة أجنبية: أنا مثلي الجنس عشت سنين في خوف لكن لما قبلت نفسي حسيت إني ولدت من جديد، الدين شايفني خطيئة بس أنا شايف نفسي إنسان..
الصراع حول الجسد ليس مسألة أخلاقية فقط، لكنه صراع بين مستقبل حرية الفرد وماضي السيطرة الدينية..
الجيل الجديد يتكلم علنا عن حرية الجسد وعن الهوية الجنسية وعن المساكنة والزواج المدني، لكن المؤسسات ما زالت ترفع راية "الحرام والخطية"..
يبقى السؤال: من يملك الجسد؟ الفرد أم المؤسسة؟
الإجابة ليست محسومة لكن المؤكد أن الجيل الجديد كسر حاجز الصمت.. أجسادهم لم تعد أراضي مقدسة للمؤسسة، بل صارت ساحات معركة يصرخون فيها: أجسادنا ملكنا، وحريتنا ليست خطيئة…
----------------------
تحقيق - مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية
الجسد بين الخطيئة والحرية